فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {إِنّ ناشِئة الليل}
يقال: نشأت تنشأ نشأ فهي ناشئة، والإنشاء الإحداث، فكل ما حدث (فهو ناشئ) فإنه يقال للذكر ناشئ وللمؤنث ناشئة، إذا عرفت هذا فنقول في الناشئة قولان: أحدهما: أنها عبارة عن ساعات الليل والثاني: أنها عبارة عن الأمور التي تحدث في ساعات الليل، أما القول الأول، فقال أبو عبيدة: ناشئة الليل ساعاته وأجزاؤه المتتالية المتعاقبة فإنها تحدث واحدة بعد أخرى، فهي ناشئة بعد ناشئة، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا، فمنهم من قال الليل كله ناشئة، روى ابن أبي مليكة، قال سألت ابن عباس وابن الزبير عن ناشئة الليل، فقال الليل كله ناشئة.
وقال زين العابدين رضي الله عنه: ناشئة الليل ما بين المغرب إلى العشاء، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك والكسائي قالوا: لأن ناشئة الليل هي الساعة التي منها يبتدئ سواد الليل، القول الثاني: هو تفسير الناشئة بأمور تحدث في الليل، وذكروا على هذا القول وجوها أحدها: قالوا: ناشئة الليل هي النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة أي تنهض وترتفع من نشأت السحابة إذا ارتفعت وثانيها: ناشئة الليل عبارة عن قيام الليل بعد النوم، قال ابن الأعرابي إذا نمت من أول الليل نومة ثم قمت فتلك النشأة، ومنه ناشئة الليل، وعندي فيه وجه ثالث: وهو أن الإنسان إذا أقبل على العبادة والذكر في الليل المظلم في البيت المظلم في موضع لا تصير حواسه مشغولة بشيء من المحسوسات ألبتة، فحينئذ يقبل القلب على الخواطر الروحانية والأفكار الإلهية، وأما النهار فإن الحواس تكون مشغولة بالمحسوسات فتصير النفس مشغولة بالمحسوسات، فلا تتفرغ للأحوال الروحانية، فالمراد من ناشئة الليل تلك الواردات الروحانية والخواطر النورانية، التي تنكشف في ظلمة الليل بسبب فراغ الحواس، وسماها ناشئة الليل لأنها لا تحدث إلا في الليل بسبب أن الحواس الشاغلة للنفس معطلة في الليل ومشغولة في النهار، ولم يذكر أن تلك الأشياء الناشئة منها تارة أفكار وتأملات، وتارة أنوار ومكاشفات، وتارة انفعالات نفسانية من الابتهاج بعالم القدس أو الخوف منه، أو تخيلات أحوال عجيبة، فلما كانت تلك الأمور الناشئة أجناسا كثيرة لا يجمعها جامع إلا أنها أمور ناشئة حادثة لا جرم لم يصفها إلا بأنها ناشئة الليل.
أما قوله تعالى: {هِى أشدُّ وطئا} أي مواطأة وملاءمة وموافقة، وهي مصدر يقال: واطأت فلانا على كذا مواطأة ووطأة ومنه {لّيُواطِئُواْ عِدّة ما حرّم الله} [التوبة: 37] أي ليوافقوا، فإن فسرنا الناشئة بالساعات كان المعنى أنها أشد موافقة لما يرد من الخشوع والإخلاص، وإن فسرناها بالنفس الناشئة كان المعنى شدة المواطأة بين القلب واللسان، وإن فسرناها بقيام الليل كان المعنى مايراد من الخشوع والإخلاص، وإن فسرناها بما ذكرت كان المعنى أن إفضاء تلك المجاهدات إلى حصول المكاشفات في الليل أشد منه في النهار، وعن الحسن أشد موافقة بين السر والعلانية لانقطاع رؤية الخلائق.
المسألة الثانية:
قرئ: {أشدّ وطئا} بالفتح والكسر وفيه وجهان الأول: قال الفراء: أشد ثبات قدم، لأن النهار يضطرب فيه الناس ويتقلبون فيه للمعاش والثاني: أثقل وأغلظ على المصلى من صلاة النهار، وهو من قولك: اشتدت على القوم وطأة سلطانهم إذا ثقل عليهم معاملتهم معه، وفي الحديث: «اللهم أشدد وطأتك على مضر» فأعلم الله نبيه أن الثواب في قيام الليل على قدر شدة الوطأة وثقلها، ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام: «أفضل العبادات أحمزها» أي أشقها.
واختار أبو عبيدة القراءة الأولى، قال: لأنه تعالى لما أمره بقيام الليل ذكر هذه الآية، فكأنه قال: إنما أمرتك بصلاة الليل لأن موافقة القلب واللسان فيه أكمل، وأيضا الخواطر الليلية إلى المكاشفات الروحانية أتم.
قوله تعالى: {وأقْومُ قِيلا} فيه مسألتان:
المسألة الأولى:
{أقْومُ قِيلا} قال ابن عباس: أحسن لفظا، قال ابن قتيبة: لأن الليل تهدأ فيه الأصوات وتنقطع فيه الحركات ويخلص القول، ولا يكون دون تسمعه وتفهمه حائل.
المسألة الثانية:
قرأ أنس {وأصوب قيلا}، فقيل له: يا أبا حمزة إنما هي: {وأقْومُ قِيلا} فقال أنس: {إن أقوم} وأصوب وأهيأ واحد، قال ابن جني، وهذا يدل على أن القوم كانوا يعتبرون المعاني، فإذا وجدوها لم يلتفتوا إلى الألفاظ ونظيره ما روى أن أبا سوار الغنوي كان يقرأ: {فحاسوا خلال الديار} بالحاء غير المعجمة، فقيل له: إنما هو جاسوا، فقال: حاسوا وجاسوا واحدو أنا أقول: يجب أن نحمل ذلك على أنه إنما ذكر ذلك تفسيرا للفظ القرآن لا على أنه جعله نفس القرآن، إذ لو ذهبنا إلى ما قاله ابن جني لارتفع الاعتماد عن ألفاظ القرآن، ولجوزنا أن كل أحد عبر عن المعنى بلفظ رآه مطابقا لذلك المعنى، ثم ربما أصاب في ذلك الاعتقاد، وربما أخطأ وهذا يجر إلى الطعن في القرآن، فثبت أنه حمل ذلك على ما ذكرناه.
{إِنّ لك فِي النّهارِ سبْحا طوِيلا (7)} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قال المبرد: سبحا أي تقلبا فيما يجب ولهذا سمي السابح سابحا لتقلبه بيديه ورجليه، ثم في كيفية المعنى وجهان الأول: إن لك في النهار تصرفا وتقلبا في مهماتك فلا تتفرغ لخدمة الله إلا بالليل، فلهذا السبب أمرتك بالصلاة في الليل الثاني: قال الزجاج: أي إن فاتك من الليل شيء من النوم والراحة فلك في النهار فراغه فاصرفه إليه.
المسألة الثانية:
قرئ {سبخا} بالخاء المنقطة من فوق، وهو استعارة من سبخ الصوف وهو نفشه ونشر أجزائه، فإن القلب في النهار يتفرغ بسبب الشواغل، وتختلف همومه بسبب الموجبات المختلفة، واعلم أنه تعالى أمر رسوله أولا بقيام الليل، ثم ذكر السبب في أنه لم خص الليل بذلك دون النهار، ثم بين أن أشرف الأعمال المأمور بها عند قيام الليل ما هو.
{واذْكُرِ اسْم ربِّك وتبتّلْ إِليْهِ تبْتِيلا (8)}
وهذه الآية تدل على أنه تعالى أمر بشيئين أحدهما: الذكر، والثاني: التبتل، أما الذكر فاعلم أنه إنما قال: {واذكر اسم ربّك} هاهنا وقال في آية أخرى: {واذكر رّبّك فِي نفْسِك تضرُّعا وخُفْية} [الأعراف: 205] لأنه لابد في أول الأمر من ذكر الاسم باللسان مدة ثم يزول الاسم ويبقى المسمى، فالدرجة الأولى هي المراد بقوله ههنا: {واذكر اسم ربّك} والمرتبة الثانية هي المراد بقوله في السورة الأخرى: {واذكر رّبّك فِي نفْسِك} وإنما تكون مشتغلا بذكر الرب، إذا كنت في مقام مطالعة ربوبيته، وربوبيته عبارة عن أنواع تربيته لك وإحسانه إليك، فما دمت في هذا المقام تكون مشغول القلب بمطالعة آلائه ونعمائه فلا تكون مستغرق القلب به، وحينئذ يزداد الترقي فتصير مشتغلا بذكر إلهيته، وإليه الإشارة بقوله: {فاذكروا الله كذِكْرِكُمْ ءاباءكُمْ} [البقرة: 200] وفي هذا المقام يكون الإنسان في مقام الهيبة والخشية، لأن الإلهية إشارة إلى القهارية والعزة والعلو والصمدية، ولا يزال العبد يرقى في هذا المقام مترددا في مقامات الجلال والتنزيه والتقديس إلى أن ينتقل منها إلى مقام الهوية الأحدية، التي كلت العبارات عن شرحها، وتقاصرت الإشارات عن الانتهاء إليها، وهناك الانتهاء إلى الواحد الحق، ثم يقف لأنه ليس هناك نظير في الصفات، حتى يحصل الانتقال من صفة إلى صفة، ولا تكون الهوية مركبة حتى ينتقل نظر العقل من جزء إلى جزء، ولا مناسبة لشيء من الأحوال المدركة عن النفس حتى تعرف على سبيل المقايسة، فهي الظاهرة لأنها مبدأ ظهور كل ظاهر، وهي الباطنة لأنها فوق عقول كل المخلوقات، فسبحان من احتجب عن العقول لشدة ظهوره واختفى عنها بكمال نوره، وأما قوله تعالى: {وتبتّلْ إِليْهِ تبْتِيلا} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى:
اعلم أن جميع المفسرين فسروا التبتل بالإخلاص، وأصل التبتل في اللغة القطع، وقيل لمريم البتول لأنها انقطعت إلى الله تعالى في العبادة، وصدقة بتلة منقطعة من مال صاحبها.
وقال الليث: التبتيل تمييز الشيء عن الشيء، والبتول كل امرأة تنقبض من الرجال، لا رغبة لها فيهم.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن للمفسرين عبارات، قال الفراء: يقال للعابد إذا ترك كل شيء وأقبل على العبادة قد تبتل أي انقطع عن كل شيء إلى أمر الله وطاعته، وقال زيد بن أسلم التبتل رفض الدنيا مع كل ما فيها والتماس ما عند الله، واعلم أن معنى الآية فوق ما قاله هؤلاء الظاهريون لأن قوله: {وتبتّلْ} أي انقطع عن كل ما سواه إليه والمشغول بطلب الآخرة غير متبتل إلى الله تعالى، بل التبتل إلى الآخرة والمغشول بعبادة الله متبتل إلى العبادة لا إلى الله، والطالب لمعرفة الله متبتل إلى معرفة الله لا إلى الله فمن آثر العبادة لنفس العبادة أو لطلب الثواب أو ليصير متعبدا كاملا بتلك العبودية للعبودية فهو متبتل إلى غير الله، ومن آثر العرفان للعرفان فهو متبتل إلى العرفان، ومن آثر العبودية لا للعبودية بل للمعبود وآثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف، فقد خاض لجة الوصول، وهذا مقام لا يشرحه المقال ولا يعبر عنه الخيال، ومن أراده فليكن من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر ولا يجد الإنسان لهذا مثالا إلا عند العشق الشديد إذا مرض البدن بسببه وانحبست القوى وعميت العينان وزالت الأغراض بالكلية وانقطعت النفس عما سوى المعشوق بالكلية، فهناك يظهر الفرق بين التبتل إلى المعشوق وبين التبتل إلى رؤية المعشوق.
المسألة الثانية:
الواجب أن يقال: وتبتل إليه تبتلا أو يقال: بتل نفسك إليه تبتيلا، لكنه تعالى لم يذكرهما واختار هذه العبارة الدقيقة وهي أن المقصود بالذات إنما هو التبتل فأما التبتيل فهو تصرف والمشتغل بالتصرف لا يكون متبتلا إلى الله لأن المشتغل بغير الله لا يكون منقطعا إلى الله، إلا أنه لابد أولا من التبتيل حتى يحصل التبتل كما قال تعالى: {والذين جاهدوا فِينا لنهْدِينّهُمْ سُبُلنا} [العنكبوت: 69] فذكر التبتل أولا إشعارا بأنه المقصود بالذات وذكر التبتيل ثانيا إشعارا بأنه لابد منه ولكنه مقصود بالغرض.
واعلم أنه تعالى لما أمره بالذكر أولا ثم بالتبتل ثانيا ذكر السبب فيه.
{ربُّ الْمشْرِقِ والْمغْرِبِ لا إِله إِلّا هُو فاتّخِذْهُ وكِيلا (9)} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أن التبتل إليه لا يحصل إلا بعد حصول المحبة، والمحبة لا تليق إلا بالله تعالى، وذلك لأن سبب المحبة إما الكمال وإما التكميل، أما الكمال فلأن الكمال محبوب لذاته إذ من المعلوم أنه يمتنع أن يكون كل شيء إنما كان محبوبا لأجل شيء آخر، وإلا لزم التسلسل، فإذا لابد من الانتهاء إلى ما يكون محبوبا لذاته، والكمال محبوب لذاته، فإن من اعتقد أن فلانا الذي كان قبل هذا بألف سنة كان موصوفا بعلم أزيد من علم سائر الناس مال طبعه إليه وأحبه شاء أم أبى، ومن اعتقد في رستم أنه كان موصوفا بشجاعة زائدة على شجاعة سائر الناس أحبه شاء أم أبى، فعلمنا أن الكمال محبوب لذاته وكمال الكمال لله تعالى، فالله تعالى محبوب لذاته، فمن لم يحصل في قلبه محبته كان ذلك لعدم علمه بكماله، وأما التكميل فهو أن الجواد محبوب والجواد المطلق هو الله تعالى فالمحبوب المطلق هو الله تعالى، والتبتل المطلق لا يمكن أن يحصل إلا إلى الله تعالى، لأن الكمال المطلق له والتكميل المطلق منه، فوجب أن لا يكون التبتل المطلق إلا إليه، واعلم أن التبتل الحاصل إليه بسبب كونه مبدأ للتكميل مقدم على التبتل الحاصل إليه بسبب كونه كاملا في ذاته، لأن الإنسان في مبدأ السير يكون طالبا للحصة فيكون تبتله إلى الله تعالى بسبب كونه مبدأ للتكميل والإحسان، ثم في آخر السير يترقى عن طلب الحصة كما بينا من أنه يصير طالبا للمعروف لا للعرفان، فيكون تبتله في هذه الحالة بسبب كونه كاملا فقوله: {رّبُّ المشرق والمغرب} إشارة إلى الحالة الأولى التي هي أول درجات المتبتلين وقوله: {لا إله إِلاّ هُو} إشارة إلى الحالة الثانية التي هي منتهى درجات المتبتلين ومنتهى أقدام الصديقين، فسبحان من له تحت كل كلمة سر مخفي، ثم وراء هاتين الحالتين مقام آخر، وهو مقام التفويض، وهو أن يرفع الاختيار من البين، ويفوض الأمر بالكلية إليه، فإن أراد الحق به أن يجعله متبتلا رضي بالتبتل لا من حيث إنه هو، بل من حيث إنه مراد الحق، وإن أراد به عدم التبتل رضي بعدم التبتل لا من حيث إنه عدم التبتيل، بل من حيث إنه مراد الحق، وهاهنا آخر الدرجات، وقوله: {فاتخذه وكِيلا} إشارة إلى هذه الحالة، فهذا ما جرى به القلم في تفسير في هذه الآية، وفي الزوايا خبايا، ومن أسرار هذه الآية بقايا {ولوْ أنّما في الأرض مِن شجرةٍ أقْلامٌ والبحر يمُدُّهُ مِن بعْدِهِ سبْعةُ أبْحُرٍ مّا نفِدتْ كلمات الله} [لقمان: 27].
المسألة الثانية:
{ربّ} فيه قراءتان إحداهما: الرفع، وفيه وجهان: أحدهما: على المدح، والتقدير هو رب المشرق، فيكون خبر مبتدأ محذوف، كقوله: {بِشرّ مّن ذلكم النار} [الحج: 72] وقوله: {متاع قلِيلٌ} [آل عمران: 197] أي تقلبهم متاع قليل والثاني: أن ترفعه بالابتداء، وخبره الجملة التي هي، {لا إله إِلاّ هُو}، والعائد إليه الضمير المنفصل، والقراءة الثانية: الخفض، وفيها وجهان: الأول: على البدل {مِن ربّك} [المزمل: 8] والثاني: قال ابن عباس: على القسم بإضمار حرف القسم كقولك: الله لأفعلن وجوابه: {لا إله إِلاّ هُو} كما تقول والله لا أحد في الدار إلا زيد، وقرأ ابن عباس {ربّ المشارق والمغارب}.
أما قوله: {فاتخذه وكِيلا} فالمعنى أنه لما ثبت أنه لا إله إلا هو لزمك أن تتخذه وكيلا وأن تفوض كل أمورك إليه، وهاهنا مقام عظيم، فإنه لما كانت معرفة أنه لا إله إلا هو توجب تفويض كل الأمور إليه دل هذا على أن من لا يفوض كل الأمور إليه، فإنه غير عالم بحقيقة لا إله إلا هو، وتقريره أن كل ما سواه ممكن ومحدث، وكل ممكن ومحدث، فإنه مالم ينته إلى الواجب لذاته لم يجب، ولما كان الواجب لذاته واحدا كان جميع الممكنات مستندة إليه، منتهية إليه وهذا هو المراد من قوله: {فاتخذه وكِيلا} وقال بعضهم: {وكِيلا} أي كفيلا بما وعدك من النصر والإظهار.
{واصْبِرْ على ما يقولون واهْجُرْهُمْ هجْرا جمِيلا (10)}
المعنى إنك لما اتخذتني وكيلا فاصبر على ما يقولون وفوض أمرهم إلي فإنني لما كنت وكيلا لك أقوم بإصلاح أمرك أحسن من قيامك بإصلاح أمور نفسك، واعلم أن مهمات العباد محصورة في أمرين كيفية معاملتهم مع الله، وكيفية معاملتهم مع الخلق، والأول أهم من الثاني، فلما ذكر تعالى في أول هذه السورة ما يتعلق بالقسم الأول أتبعه بما يتعلق بالقسم الثاني، وهو سبحانه جمع كل ما يحتاج إليه من هذا الباب في هاتين الكلمتين، وذلك لأن الإنسان إما أن يكون مخالطا للناس أو مجانبا عنهم فإن خالطهم فلابد له من المصابرة على إيذائهم وإيحاشهم، فإنه إن كان يطمع منهم في الخير والراحة لم يجد فيقع في الغموم والأحزان، فثبت أن من أراد مخالطة مع الخلق فلابد له من الصبر الكثير، فأما إن ترك المخالطة فذاك هو الهجر الجميل، فثبت أنه لابد لكل إنسان من أحد هذين الأمرين، والهجر الجميل أن يجانبهم بقلبه وهواه ويخالفهم في الأفعال مع المدارة والإغضاء وترك المكافأة، ونظيره {فأعْرِضْ عنْهُمْ وعِظْهُمْ} [النساء: 63] {وأعْرِض عنِ الجاهلين} [الأعراف: 199] {فأعْرض عمّ مّن تولى عن ذِكْرِنا} [النجم: 29] قال المفسرون: هذه الآية إنما نزلت قبل آية القتال ثم نسخت بالأمر بالقتال، وقال آخرون: بل ذلك هو الأخذ بإذن الله فيما يكون أدعى إلى القبول فلا يرد النسخ في مثله وهذا أصح.
{وذرْنِي والْمُكذِّبِين أُولِي النّعْمةِ ومهِّلْهُمْ قلِيلا (11)}
اعلم أنه إذا اهتم إنسان بمهم وكان غيره قادرا على كفاية ذلك المهم على سبيل التمام والكمال قال له: ذرني أنا وذاك أي لا حاجة مع اهتمامي بذاك إلى شيء آخر وهو كقوله: {فذرْنِى ومن يكذب} [القلم: 44] وقوله: {أُوْلِى النعمة} بالفتح التنعم وبالكسر الإنعام وبالضم المسرة يقال: أنعم بك ونعمك عينا أي أسرّ عينك وهم صناديد قريش وكانوا أهل تنعم وترفه {ومهّلْهُمْ قلِيلا} فيه وجهان أحدهما: المراد من القليل الحياة الدنيا والثاني: المراد من القليل تلك المدة القليلة الباقية إلى يوم بدر، فإن الله أهلكهم في ذلك اليوم.
ثم ذكر كيفية عذابهم عند الله.
{إِنّ لديْنا أنْكالا وجحِيما (12) وطعاما ذا غُصّةٍ وعذابا ألِيما (13)}
أي إن لدينا في الآخرة ما يضاد تنعمهم في الدنيا، وذكر أمورا أربعة أولها: قوله: {أنكالا} واحدها نكل ونكل، قال الواحدي: النكل القيد، وقال صاحب الكشاف: النكل القيد الثقيل وثانيها: قوله: {وجحِيما} ولا حاجة به إلى التفسير وثالثها: قوله: {وطعاما ذا غُصّةٍ} الغصة ما يغص به الإنسان، وذلك الطعام هو الزقوم والضريع كما قال تعالى: {لّيْس لهُمْ طعامٌ إِلاّ مِن ضرِيعٍ} [الغاشية: 6] قالوا: إنه شوك كالعوسج يأخذ بالحلق يدخل ولا يخرج ورابعها: قوله: {وعذابا ألِيما} والمراد منه سائر أنواع العذاب، واعلم أنه يمكن حمل هذه المراتب الأربعة على العقوبة الروحانية، أما الأنكال فهي عبارة عن بقاء النفس في قيد التعلقات الجسمانية واللذات البدنية، فإنها في الدنيا لما اكتسبت ملكة تلك المحبة والرغبة، فبعد البدن يشتد الحنين، مع أن آلات الكسب قد بطلت فصارت تلك كالأنكال والقيود المانعة له من التخلص إلى عالم الروح والصفاء، ثم يتولد من تلك القيود الروحانية نيران روحانية، فإن شدة ميلها إلى الأحوال البدنية وعدم تمكنها من الوصول إليها، يوجب حرقة شديدة روحانية كمن تشتد رغبته في وجدان شيء، ثم إنه لا يجده فإنه يحترق قلبه عليه، فذاك هو الجحيم، ثم إنه يتجرع غصة الحرمان وألم الفراق، فذاك هو المراد من قوله: {وطعاما ذا غُصّةٍ} ثم إنه بسبب هذه الأحوال بقي محروما عن تجلي نور الله والانخراط في سلك المقدسين، وذلك هو المراد من قوله: {وعذابا ألِيما} والتنكير في قوله: {وعذابا} يدل على أن هذا العذاب أشد مما تقدم وأكمل، واعلم أني لا أقول المراد بهذه الآيات هو ما ذكرته فقط، بل أقول إنها تفيد حصول المراتب الأربعة الجسمانية، وحصول المراتب الأربعة الروحانية، ولا يمتنع حمله عليهما، وإن كان اللفظ بالنسبة إلى المراتب الجسمانية حقيقة، وبالنسبة إلى المراتب الروحانية مجازا متعارفا مشهورا.
ثم إنه تعالى لما وصف العذاب، أخبر أنه متى يكون ذلك.
{يوْم ترْجُفُ الْأرْضُ والْجِبالُ وكانتِ الْجِبالُ كثِيبا مهِيلا (14)} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال الزجاج: {يوْمٍ} منصوب بقول: {إِنّ لديْنا أنكالا وجحِيما} [المزمل: 12] أي ننكل بالكافرين ونعذبهم يوم ترجف الأرض.
المسألة الثانية:
الرجفة الزلزلة والزعزعة الشديدة، والكثيب القطعة العظيمة من الرمل تجتمع محدودبة وجمعه الكثبان، وفي كيفية الاشتقاق قولان: أحدهما: أنه من كثب الشيء إذا جمعه كأنه فعيل بمعنى مفعول والثاني: قال الليث: الكثيب نثر التراب أو الشيء يرمي به، والفعل اللازم انكثب ينكثب انكثابا، وسمي الكثيب كثيبا، لأن ترابه دقاق، كأنه مكثوب منثور بعضه على بعض لرخاوته، وقوله: {مّهِيلا} أي سائلا قد أسيل، يقال: تراب مهيل ومهيول أي مصبوب ومسيل الأكثر في اللغة مهيل، وهو مثل قولك مكيل ومكيول، ومدين ومديون، وذلك أن الياء تحذف منه الضمة فتسكن، والواو أيضا ساكنة، فتحذف الواو لالتقاء الساكنين ذكره الفراء والزجاج، وإذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى يفرق تركيب أجزاء الجبال وينسفها نسفا ويجعلها كالعهن المنفوش، فعند ذلك تصير كالكثيب، ثم إنه تعالى يحركها على ما قال: {ويوْم نُسيّرُ الجبال} [الكهف: 47] وقال: {وهِى تمُرُّ مرّ السحاب} [النمل: 88] وقال: {وسُيّرتِ الجبال} [النبإ: 20] فعند ذلك تصير مهيلا، فإن قيل لم لم يقل: وكانت الجبال كثبانا مهيلة؟ قلنا: لأنها بأسرها تجتمع فتصير كثيبا واحدا مهيلا. اهـ.